دائرتنا / نعمت الحاموش

في كلّ نفسٍ إنسانيّة عبَق من عطر الإله... يولد فيها... يكبر معها يتغذّى من حزنها وفرحها... ينضج في تجاربها ومآسيها... في كلّ نفس إنسانيّة عبق... يستلّها من وحول الواقع ليسمو بها... خارج أسر الثّواني... وحلكة الوقت... لكلّ نفس عبق... يسرقها من كلّ ما حولها... ومن حولها... يسرقها من ذاتها... لتعانق المدى... اللامحدود... لتعشق المحال... والغيب الأرجواني... حيث تترامى الآفاق... مهلّلة... مكتظّةً بنبض ذوات هاربة... وكان لي من ذلك العبق نعمة صغيرة... هدير عميق... أشبه بموسيقى الملائكة... وصوت نايات الفجر... كبرْتُ مع ذلك الصّوت... كبرتُ مع إلحاحه المستمرّ... وبدأت كلماتي تحبو أمامي... مدادًا يتواطؤ مع الورق... وروحًا تستجدي الأفكار... وإذا بأهوال الحرب تطبق براثنها على وطني...عيونٌ أعماها الحقد... آذان صمّاء... والصّراخ يعلو... قلوب باتت معابد للحجارة... كلّ يوم شهيد... صارت القرى والبلدات لوحة واحدة... ثياب سود... ووجوه يجلدها الدّمع... صار الحزن خبزشعبي اليومي... ونسيَتْ الّليالي طعم النّوم... فكنت وعلى ضوء شموع الملجأ الخافتة ... أحمل قلمي ويعلو صراخي على الورق... وهكذا بدأت قصّتي مع الكلمة... فكلّما اشتدّ القصف... وتمادى الموت في قهر النّفوس... كنت ألجأ إلى زاوية أعتقدها آمنة في بيتي وأنهمر غضبا في سطور... ومرّت الأيّام... ولا يزال القلم رسول النّفس... بشمسها... وعواصفها... وأنوائها... لا يزال الصّديق الأوفى... والأقرب... في زمن انعدم فيه الوفاء... حين أعزل نفسي مع قلمي... كأنّي به يحملني في طيّات حروفه... فيصغر الكون... وتكبر الكلمة...