eBooks / Stories / رسائل

كانت سنة ١٩٦١، يوم الخميس من الشهر الجديد، اعتدْتُ الجلوس بجانب الراديو كلما صدرَت أغنية جديدة، أنتظر بلهفةٍ وبشوقٍ كالحبيبِ عندما ينتظر حبيبَه، والصور في ذهني تتمثل في كل شيءٍ جميل؛ سماءِ ربيعٍ صافية، شَربةِ ماءٍ في نهارٍ جافٍّ بعد ظمَأ، عِناقٍ دافئٍ بعد ابتعادٍ أو هُجرانٍ، أو ورودٍ وأشجارٍ في مَهَبِّ الرِّيح، ولكن الحروف كما تُقال؛ لا بد من رؤيتها تترامى من فمٍ لم يعرف إلا الإتقان، وها أنا جالسٌ والساعةُ العاشرة، والسِّتارُ لم ينفرج بعد، أراقب متأنِّقًا وكل من حولي متأنِّقين كأننا في موعد مع سفير أو رئيسِ جمهورية؛ مَن يُشعِل سيجارته، ومن يتحدث إلى زوجته، بين من يلبس بذلة وجِلباب، وكلهم على وشكِ أن يثملوا ويُطلقوا صرخات الرضا على كل ما سيسمعونه، وهم أيضا من سيطالبون بإعادة الموسيقى أو الكوبليهات ما أن تبدأ بالغناء، هذا ما أسمعه بإنصات في ليلةٍ ممطرةٍ في البيت، أو على المقهى حين أمَلُّ من الوِحدة، وهذا ما سنحتْ ليَ الفرصة كي أراه الليلة، ظللت أتأمل السِّتار حتى لفتَ نظري جلوس شخص بجانبي من ناحية اليمين -الذي هو المقعد الأخير في الصف - هيئته رثَّة قليلا ولكن فيه شيء من الهيبة، ثِيابه مهندمة ويلبس الطربوش -وخلَعه عندما جلس - شيءٌ ما جعل بي فضولًا تجاهه، فظللت أنظر له خِلسة أراقب تصرفاته، وهو ينظر إلى ساعته التي يعلِّقها في الصِّديري الذي يلبسه، يبدو عليه أنه مشغول وأنه من المفترض أن يكون في مكان آخر.